فصل: تفسير الآيات (10- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (8 – 9):

{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)}
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} والالتقاط هو وجود الشيء من غير طلب، {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} وهذه اللام تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة، لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا ولكن صار عاقبة أمرهم إلى ذلك، قرأ حمزة والكسائي: {حُزْنًا} بضم الحاء وسكون الزاي، وقرأ الآخرون بفتح الحاء والزاي، وهما لغتان، {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} عاصين. آثمين.
قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} قال وهب: لما وضع التابوت بين يدي فرعون فتحوه فوجد فيه موسى فلما نظر إليه قال عبراني من الأعداء فغاظه ذلك، وقال: كيف أخطأ هذا الغلام الذبح؟ وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء ومن بنات الأنبياء وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم، قالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه: هذا الوليد أكبر من ابن سنة وإنما أمرت أن يذبح الولدان لهذه السنة فدعه يكون قرة عين لي وذلك، {لا تَقْتُلُوهُ} وروي أنها قالت له: إنه أتانا من أرض أخرى ليس من بني إسرائيلُ {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أن هلاكهم على يديه، فاستحياه فرعون، وألقى الله عليه محبته وقال لامرأته: عسى أن ينفعك فأما أنا فلا أريد نفعه، قال وهب قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية: عسى أن ينفعنا، لنفعه الله، ولكنه أبى، للشقاء الذي كتبه الله عليه.

.تفسير الآيات (10- 11):

{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)}
وقوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} أي: خاليا من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه، وهذا قول أكثر المفسرين. وقال الحسن: {فارغا} أي: ناسيا للوحي الذي أوحى الله إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن، والعهد الذي عهد أن يرده إليها ويجعله من المرسلين، فجاءها الشيطان فقال: كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله فألقيته في البحر، وأغرقته، ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت: إنه وقع في يد عدوه الذي فررت منه، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها. وقال أبو عبيدة: {فارغا} أي: فارغا من الحزن، لعلمها بصدق وعد الله تعالى، وأنكر القتيبي هذا، وقال: كيف يكون هذا والله تعالى يقول: {إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها}؟ والأول أصح.
قول الله عز وجل: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} قيل الهاء في {به} راجعة إلى موسى، أي: كادت لتبدي به أنه ابنها من شدة وجدها. وقال عكرمة عن ابن عباس: كادت تقول: وابناه. وقال مقاتل: لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شفقتها. وقال الكلبي: كادت تظهر أنه ابنها، وذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعدما شب: موسى بن فرعون، فشق عليها فكادت تقول: بل هو ابني. وقال بعضهم: الهاء عائدة إلى الوحي أي: كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها أن يرده إليها. {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} بالعصمة والصبر والتثبيت، {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} المصدقين لوعد الله حين قال لها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ}.
{وَقَالَتْ لأخْتِهِ} أي: لمريم أخت موسى: {قُصِّيه} اتبعي أثره حتى تعلمي خبره، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أي: عن بعد، وفي القصة أنها كانت تمشي جانبا وتنظر اختلاسا تري أنها لا تنظره.
{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أنها أخته وأنها ترقبه، قال ابن عباس: إن امرأة فرعون كل همها من الدنيا أن تجد له مرضعة، فكلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها، فذلك قوله عز وجل: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ}.

.تفسير الآيات (12- 14):

{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)}
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} والمراد من التحريم المنع، والمراضع: جمع المرضع، {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل مجيء أم موسى، فلما رأت أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلبه ذلك قالت لهم: هل أدلكم؟ وفي القصة أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديا ويصيح وهم في طلب مرضعة له.
{فَقَالَت} يعني أخت موسى، {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} أي: يضمنونه {لَكُمُ} ويرضعونه، وهي امرأة قد قتل ولدها فأحب شيء إليها أن تجد صغيرا ترضعه، {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} والنصح ضد الغش، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد، قالوا: نعم فأتينا بها. قال ابن جريج والسدي: لما قالت أخت موسى: {وهم له ناصحون} أخذوها وقالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله. فقالت: ما أعرفه، وقلت هم للملك ناصحون. وقيل: إنها قالت: إنما قلت هذا رغبة في سرور الملك واتصالنا به. وقيل إنها لما قالت: {هل أدلكم على أهل بيت} قالوا لها: من؟ قالت: أميُ قالوا: ولأمك ابن؟ قالت: نعم هارون، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها، قالوا: صدقت، فأتينا بها، فانطلقت إلى أمها وأخبرتها بحال ابنها، وجاءت بها إليهم، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها، وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريًا. قال السدي: كانوا يعطونها كل يوم دينارا فذلك قوله تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا}.
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} برد موسى إليها، {وَلا تَحْزَنْ} أي: ولئلا تحزن، {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} برده إليها، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن الله وعدها رده إليها.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال الكلبي: الأشد ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة. قال مجاهد وغيره: ثلاث وثلاثون سنة، {وَاسْتَوَى} أي: بلغ أربعين سنة، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقيل: استوى انتهى شبابه {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} أي: الفقه والعقل والعلم في الدين، فعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيا، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.

.تفسير الآية رقم (15):

{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)}
قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} يعني: دخل موسى المدينة. قال السدي: هي مدينة منف من أرض مصر. وقال مقاتل: كانت قرية حابين على رأس فرسخين من مصر. وقيل: مدينة عين الشمس، {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة. وقال محمد بن كعب القرظي: دخلها فيما بين المغرب والعشاء. واختلفوا في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت؛ قال السدي: وذلك أن موسى عليه السلام كان يسمى ابن فرعون، فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه، فركب فرعون يوما وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها نصف النهار، وليس في طرفها أحد، فذلك قوله عز وجل: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} قال ابن إسحاق: كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يستمعون منه ويقتدون به، فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه، فخالفهم في دينه حتى ذكر ذلك منه وخافوه وخافهم، فكان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخيفا، فدخلها يوما على حين غفلة من أهلها. وقال ابن زيد: لما علا موسى فرعون بالعصا في صغره، فأراد فرعون قتله، قالت امرأته: هو صغير، فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته، فلم يدخل عليهم إلا بعد أن كبر وبلغ أشده فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، يعني: عن ذكر موسى، أي: من بعد نسيانهم خبره وأمره لبعد عهدهم به وروي عن علي في قوله: {حين غفلة} كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم. {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ} يختصمان ويتنازعان، {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} بني إسرائيل، {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} من القبط، قيل: الذي كان من شيعته السامري، والذي من عدوه من القبط، قيل: طباخ فرعون اسمه فليثون. وقيل: {هذا من شيعته وهذا من عدوه} أي: هذا مؤمن وهذا كافر، وكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى المطبخ. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع، وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى، لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم، فوجد موسى رجلان يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، والاستغاثة: طلب الغوث، فغضب موسى واشتد غضبه؛ لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم، ولا يعلم الناس إلا أنه من قبل الرضاعة من أم موسى، فقال للفرعوني: خل سبيله، فقال: إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك، فنازعه، فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك، وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة والبطش، {فَوَكَزَهُ مُوسَى} وقرأ ابن مسعود: {فلكزه موسى}، ومعناهما واحد، وهو الضرب بجمع الكف. وقيل: الوكز الضرب في الصدر واللكز في الظهر. وقال الفراء: معناهما واحد، وهو الدفع، قال أبو عبيدة: الوكز الدفع بأطراف الأصابع، وفي بعض التفاسير: عقد موسى ثلاثا وثمانين وضربه في صدره، {فَقَضَى عَلَيْهِ} أي: فقتله وفرغ من أمره، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه، فندم موسى عليه السلام، ولم يكن قصده القتل، فدفنه في الرمل، {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} أي: بين الضلالة.

.تفسير الآيات (16- 17):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)}
{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بقتل القبطي من غير أمر، {فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} بالمغفرة، {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا} عونا، {لِلْمُجْرِمِينَ} قال ابن عباس: للكافرين، وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا، وهو قول مقاتل، قال قتادة: لن أعين بعدها على خطيئة، قال ابن عباس: لم يستثن فابتلي به في اليوم الثاني.

.تفسير الآيات (18-20):

{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)}
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ} أي: في المدينة التي قتل فيها القبطي، {خَائِفًا} من قتله القبطي، {يَتَرَقَّبُ} ينتظر سوءا، والترقب: انتظار المكروه، قال الكلبي: ينتظر متى يؤخذ به، {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} يستغيثه ويصيح به من بُعْدٍ. قال ابن عباس: أُتي فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلا فخذ لنا بحقنا، فقال: ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه، فلا يستقيم أن يقضي بغير بينة، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذ مر موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا فاستغاثه على الفرعوني فصادف موسى، وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي، {قَالَ لَهُ مُوسَى} للإسرائيلي: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ظاهر الغواية قاتلت بالأمس رجلا فقتلته بسببك، وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه؟ وقيل: إنما قال موسى للفرعوني: إنك لغوي مبين بظلمك، والأول أصوب، وعليه الأكثرون أنه قال ذلك للإسرائيلي.
{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} وذلك أن موسى أدركته الرقة بالإسرائيلي فمد يده ليبطش بالفرعوني، فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به لما رأى من غضبه وسمع قوله: إنك لغوي مبين، {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ} ما تريد، {إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ} بالقتل ظلما، {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} فلما سمع القبطي ما قال الإسرائيلي علم أن موسى هوالذي قتل ذلك الفرعوني، فانطلق إلى فرعون وأخبره بذلك، وأمر فرعون بقتل موسى. قال ابن عباس: فلما أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم.
{وَجَاءَ رَجُلٌ} من شيعة موسى، {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} أي: من آخرها، قال أكثر أهل التأويل: اسمه حزبيل مؤمن من آل فرعون، وقيل: اسمه شمعون، وقيل: شمعان، {يَسْعَى} أي: يسرع في مشيه، فأخذ طريقا قريبا حتى سبق إلى موسى فأخبره وأنذروه حتى أخذ طريقا آخر، {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} يعني: أشراف قوم فرعون يتشاورون فيك، {لِيَقْتُلُوك} قال الزجاج: يأمر بعضهم بعضا بقتلك، {فَاخْرُجْ} من المدينة، {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} في الأمر لك بالخروج.

.تفسير الآيات (21-23):

{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)}
{فَخَرَجَ مِنْهَا} موسى، {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أي: ينتظر الطلب، {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الكافرين، وفي القصة: أن فرعون بعث في طلبه حين أخبر بهربه فقال اركبوا ثنيات الطريق فإنه لا يعرف كيف الطريق.
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أي: قصد نحوها ماضيا إليها، يقال: داره تلقاء دار فلان، إذا كانت محاذيتها، وأصله من اللقاء، قال الزجاج: يعني سلك الطريق الذي تلقاء مدين فيها، ومدين هو مدين بن إبراهيم، سميت البلدة باسمه، وكان موسى قد خرج خائفا بلا ظهر ولا حذاء ولا زاد، وكانت مدين على مسيرة ثمانية أيام من مصر، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي: قصد الطريق إلى مدين، قال ذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها قبل، فلما دعا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين. قال المفسرون: خرج موسى من مصر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل، حتى يرى خضرته في بطنه، وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه. قال ابن عباس: وهو أول ابتلاء من الله عز وجل لموسى عليه السلام.
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم، {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} جماعة {مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} مواشيهم، {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} يعني: سوى الجماعة، {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} يعني: تحبسان وتمنعان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس وتخلو لهم البئر، قال الحسن: تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس، وقال قتادة: تكفان الناس عن أغنامهما. وقيل: تمنعان أغنامهما عن أن تشذ وتذهب. والقول الأول أصوبها، لما بعده، وهو قوله: {قَالَ} يعني: موسى للمرأتين، {مَا خَطْبُكُمَا} ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس؟ {قَالَتَا لا نَسْقِي} أغنامنا، {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، وابن عامر: {يصدر} بفتح الياء وضم الدال على اللزوم، أي: حتى يرجع الرعاء عن الماء، وقرأ الآخرون: بضم الياء وكسر الدال، أي: حتى يصرفوا هم مواشيهم عن الماء، و{الرعاء} جمع راع، مثل: تاجر وتجار. ومعنى الآية: لا نسقي مواشينا حتى يصدر الرعاء، لأنا امرأتان لا نطيق أن نسقي، ولا نستطيع أن نزاحم الرجال، فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض.
{وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لا يقدر أن يسقي مواشيه، فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم. واختلفوا في اسم أبيهما، فقال مجاهد، والضحاك، والسدي والحسن: هو شعيب النبي عليه السلام. وقال وهب بن منبه، وسعيد بن جبير: هو يثرون بن أخي شعيب، وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره، فدفن بين المقام وزمزم. وقيل: رجل ممن آمن بشعيب قالوا: فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس.
وقال ابن إسحاق: إن موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر، فسقى غنم المرأتين. ويروى: أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر، فجاء موسى ورفع الحجر وحده، وسقى غنم المرأتين. ويقال: إنه نزع ذنوبا واحدا ودعا فيه بالبركة، فروى منه جميع الغنم، فذلك قوله: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ}.